فواز بن علي المالكي

عضو هيئة التدريس بقسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بجامعة القصيم

 

قبل ثلاثة أشهر وعندما بدأت في الانتباه إلى التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي حيث كان هناك انفجار في الأدوات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي. ذلك أنه بحسب التقديرات فإنها تقدر بالآلاف ولا زالت… كنت أعرف في قرارة نفسي أنه يجب أن أجربها. لهذا، بدأت في التفاعل مع أدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة، بما في ذلك روبوتات المحادثة ونماذج اللغة، والمواقع التي تعتمد على قدرات الذكاء الاصطناعي في قراءة، تحليل وتلخيص النصوص، وكذلك المواقع التي تقوم بصنع المحتوى المرئي. لقد أخذت بمجاميع قلبي على الفور وذلك لما أظهرته من قدرة كبيرة في أداء المهام المطلوبة منها. مع استمراري في استخدام هذه الأدوات، وجدت أنها كانت قادرة على مساعدتي في مجموعة واسعة من المهام؛ من الإجابة على أسئلته حول موضوع معين، إلى توليد أفكار إبداعية، إلى تسهيل عملية إنشاء المحتوى التعليمي … إلى غيرها من المهام.  لقد ذُهلت من مدى سرعة ودقة تمكّنها من فهم أسئلتي وتقديم ردود مفيدة وذات طابع أقرب ما يكون إلى أنه شخصي، وكأنني أتحدث إلى صديق لا يكل ولا يمل من الاجابة عن أسئلتي والاستماع لي وتقديم المشورة في كل المواضيع التي أرغب في توسيع رقعة معرفتي بها.

في واقع الأمر، كانت كثير من الأسئلة التي أطرحها على النماذج اللغوية التي تم ابتكارها مثل :ChatGPT، BERT, ELMO, ULMFiT، و Bing AI و  Bard تتعلق أغلبها في تخصص الخدمة الاجتماعية وممارساتها. حتى طرأ علي سؤال جعلني أقرأ الموضوع بشكل مختلف. وهو الدافع لكتابة هذا المقال: ما مستقبل استخدام الذكاء الاصطناعي في ممارسة الخدمة الاجتماعية؟ وهذا المقال هو باكورة دراسة أعكف عليها في هذا الخصوص.

مع استمرار التطورات السريعة في الذكاء الاصطناعي (AI) ، تمر الخدمة الاجتماعية أيضًا بتحول ملحوظ في هذا الصدد. ذلك أن الذكاء الاصطناعي يتمتع بإمكانية إحداث ثورة في كيفية ممارسة الأخصائيين الاجتماعيين، حيث يقدم أدوات وتقنيات جديدة لمعالجة بعض القضايا الأكثر إلحاحًا في المجتمع. في هذه المقالة، سوف أتطرق إلى الفرص والتحديات الملحوظة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي أمام ممارسة الخدمة الاجتماعية، مع تسليط الضوء على قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز ممارسة المهنة و لمحة لتفحص القضايا الأخلاقية التي تأتي مع هذه التكنولوجيا.

فجر الذكاء الاصطناعي في الخدمة الاجتماعية

مؤخراً، شق الذكاء الاصطناعي طريقه إلى مختلف المجالات، والخدمة الاجتماعية ليس استثناءً من هذا. لقد أدّى دمج الذكاء الاصطناعي في ممارسة الخدمة الاجتماعية إلى دخول حقبة جديدة، تتميز بإمكانية تدخلات أكثر كفاءة، وتحسين عملية صنع القرار، وفهم مختلف للقضايا المعقدة التي يعالجها الأخصائيون الاجتماعيون يوميًا. من أكثر التطبيقات الميدانية الواعدة للذكاء الاصطناعي في الخدمة الاجتماعية تلك التطبيقات التي تساعد في مرحلة التقدير والتدخل.  حيث أن هذه التطبيقات يمكن أن تساعد الأخصائيين الاجتماعيين في تحديد احتياجات عملائهم بسرعة ودقة، مما يسمح بمزيد من الدعم الموَجه للعملاء وتحقيق نتائج دقيقة. على سبيل المثال لا الحصر، يمكن لخوارزميات التعلم الآلي تحليل كميات كبيرة من البيانات لاكتشاف الأنماط والاتجاهات، ومساعدة الأخصائيين الاجتماعيين على تحديد العملاء المعرضين للخطر وتصميم التدخلات المناسبة التي تستند على مدخلات نظرية وتجارب عملية من الميدان والتي تكون متاحة في الدراسات العلمية المطبقة والتي يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها من خلال قواعد البيانات على الانترنت، حيث يمكنه الربط والتحليل والمطابقة مع المدخلات المحددة التي يقوم بإدخالها الأخصائي الاجتماعي. يبدو هطا الجهد مذهلا وخارق للعادة، مع ذلك، فإن هذه المدخلات لا يمكن تعميمها ذلك أن لكل موقف إشكالي أو حالة ميزتها الخاصة وفروقها الفردية. أنا أتحدث عن المدخلات العامة والأعراض العامة التي يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول لها في الدراسات المطبقة والمنشورة. بطبيعة الحال، هذا لا يلغى من أهمية المهارات الكثيرة والمتميزة لدى الأخصائيين الاجتماعيين والتي تتعزز وتتطور من خلال الاحتكاك والتعامل المباشر مع الأفراد. إنما حديثي هنا عن الأطر العامة التي تمكن الآلة من التعلم من المدخلات المتكررة والتي تستخدم خوارزميات محددة لذلك مثل: البحث عن أعراض اضطراب معين، أو البحث عن آخر الدراسات المطبقة لنموذج تدخل محدد والاستفادة من أدوات قراءة وتحليل الملفات لكسب الكثير من الوقت في التدخل مع الحالات المستعجلة أو التي تتطلب تدخل سطحي.

الحديث عن استخدام الذكاء الاصطناعي في عملية الممارسة يقودنا إلى التساؤل عن مستويات الممارسة التي يمكن أن الاستفادة منه فيها، وبطبيعة الحال فإن المستويات تلخص في الآتي: مستوى Micro ، Mezzo و Macro .

نماذج من استخدام الذكاء الاصطناعي في مستويات التدخل المهني (على مستوى الـMicro )

حدد (Goldkind, Lauri 2021) مستويات الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في الخدمة الاجتماعية في: التدخل على مستوى Micro, Mezzo و Macro لاستخدام حلول الذكاء الاصطناعي. ففي مستوى Micro يكمن التدخل في معالجة الفجوة التي يحدثها شح وجود المتخصصين وحاجة الأفراد للاستشارات العاجلة. حيث اعطى مثلاً على ذلك، بالمستشارين الافتراضيين المخصصين أو وكلاء المحادثة المجسدين (ECAs) Embodied Conversational Agents. والتي يمكن للعملاء الوصول إليها عبر الإنترنت. هي شخصيات شبيهة بالرسوم المتحركة تم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر تظهر العديد من نفس الخصائص مثل البشر في المحادثة وجهاً لوجه، بما في ذلك القدرة على إنتاج والاستجابة للتواصل اللفظي وغير اللفظي (Cassell & Churchill, 2022). تعني “المستشار الافتراضي عند الطلب”. وهو نوع من المستشارين الافتراضيين المدعومين بالذكاء الاصطناعي والذي تم تصميمه لتقديم دعم شخصي للاستجابة لقضايا الصحة العقلية للأفراد.

على مستوى الـ  Mezzo

توفر حلول الذكاء الاصطناعي على النطاق المتوسط أو في مستوى Mezzo لممارسة الخدمة الاجتماعية، بما في ذلك المؤسسات أو المجموعات الصغيرة خدمات التحسين للخدمات المقدمة بشكل عام وصولاً إلى تحسين حياة العملاء وجماعات المجتمع المحلي. على سبيل المثال، أحد هذه الحلول هو استخدام التحليل الاستشرافي أو التنبؤي والذي يتضمن استخدام البيانات للتنبؤ بنتائج الخدمة والتحديات المتوقعة في الخدمات المقدمة في المجتمعات المحلية. حيث وبطبيعة الحال يساعد ذلك متخذي القرار في اتخاذ قرارات أكثر حكمة حول كيفية تخصيص الموارد المتاحة. ومن المنظمات التي قامت باستخدام هذه الحلول منظمة DataKind وهي منظمة تطوعية متخصصة في علم البيانات بدأت العمل في عام 2012 يقع مقرها الرئيسي في مدينة نيويورك. تطوعت مع بنوك الطعام لاستخدام البيانات التاريخية وخوارزميات التعلم الآلي لتوقع مستوى المساعدة التي قد يحتاجها المستفيدون منها. من خلال تصنيف العملاء بناءً على حسابات معقدة للاحتياجات، تكون المنظمة قادرة على تخصيص الموارد بشكل أكثر فعالية لمنع تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي. يتمتع هذا الحل بإمكانية تطبيقه عبر مختلف القطاعات مما يوفر طريقة أكثر دقة وكفاءة لتوصيل الموارد من قبل المؤسسات التي تقدم الخدمة (Datakind, n.d.)

على مستوى الـ Macro

تستخدم حلول الذكاء الاصطناعي في فهم وتحسين الحياة على مستوى الـ Macro من منظور الخدمة الاجتماعية من خلال تحسين الأنظمة وتقييم السياسات. ومنها سياسات العدالة الجنائية التي تعد منظمة Chicago Data Collaborative مثالاً حياً عليها؛ حيث تمثل جهدًا تعاونيًا من قبل غرف الأخبار والأكاديميين والباحثين غير الربحيين لمساعدة بعضهم البعض على فهم نظام العدالة الجنائية في شيكاغو وتغيير سياسات العدالة الاجتماعية، حيث يعملون معاً للحصول على البيانات من الهيئات العامة، وتنظيم تلك البيانات وتوثيقها، وربط البيانات معًا (Chicago Data Collaborative, n.d.). حيث تؤمن المنظمة بأن العدالة الجنائية تنطوي على شبكة معقدة من المؤسسات المختلفة. ومن خلال المشاركة والتنظيم يمكن المدافعة عن الأفراد أثناء عمليات التوقيف، التحقيق والاعتقالات وذلك من خلال السعي لرسم صورة شاملة عن القضايا من خلال جمع وتحليل البيانات بشكل آلي وتقديمها للقضاة.

الاعتبارات الأخلاقية لاستخدام حلول الذكاء الاصطناعي في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

بلا شك أن الذكاء الاصطناعي يوفر العديد من الفرص لتحسين ممارسة الخدمة الاجتماعية، ولكنه في المقابل فإنه يثير أيضًا أسئلة مهمة يجب معالجتها لضمان تقديم رؤية أخلاقية لعملية الممارسة، تشمل هذه الأسئلة على سبيل المثال لا الحصر:

  • خصوصية البيانات: حيث غالبًا ما تتطلب الوصول إلى المعلومات الشخصية الحساسة، مثل السجلات الطبية أو بيانات العدالة الجنائية أو غيرها، وفي بعض الحالات تم رصد تسريب بيانات شخصية في بدايات استخدام حلول الذكاء الاصطناعي كما حدث مع تسريب بيانات شركة الاتصالات سامسونج أثناء استخدام ChatGPT (Petkauskas, 2023). هذه البيانات خاصة بقضايا تقنية بحته، فلك أن تتخيل أن تتسرب بيانات شخصية متعلقة بتاريخ مرضي أو جنائي لأحد العملاء لديك.
  • انعدام التقدير المناسب: هذا بطبيعة الحال يعد من أكثر الأسئلة الأخلاقية التي يتوجب على الاخصائيين الاجتماعين الانتباه لها، ذلك أن حلول الذكاء الاصطناعي يمكن أن توفر الحلول المعلبة والسريعة المفيدة لكنها لا تعرف بشكل شخصي ولا تنخرط عاطفياً مع العميل أو المستفيد ولا يمكن (إلى الآن) أن تستطيع الشعور بالعميل.
  • المساءلة والشفافية: لا يعني الاستفادة من حلول الذكاء الاصطناعي انعدام المساءلة، إن المساءلة هي أحد الأدوات التي تضمن الجودة والاداء المتميز، والاعتماد على هذه التقنيات لا يلغي ضرورة المساءلة لها. بل الأولى أن يتم تعزيزها لا سيما أن هذه التقنيات توفر الفرصة لحفظ وتتبع الاداء بشكل دقيق. كيف يمكن مساءلة أحد أدوات الذكاء الاصطناعي؟ من المسؤول؟ هل تملك حرية الإرادة وبالتالي يمكن محاسبتها؟ ماهو الشكل القانوني والعدلي الذي يمكن اتباعه معها؟ والكثير الكثير من الأسئلة.

* هناك الكثير من الاعتبارات التي من خلال معالجتها، يمكن للأخصائيين الاجتماعيين ضمان استخدام حلول الذكاء الاصطناعي بطريقة تدعم رفاهية الأفراد، الجماعات والمجتمعات.

 

ختاماً:

مع استمرارنا في التعرف على عصر الذكاء الاصطناعي من الضروري التعرف على كل الفرص والتحديات التي تطرحها هذه التكنولوجيا. من خلال تبني عقلية منفتحة على التطورات المحمومة في عالم الذكاء الاصطناعي واعتبارها أداة لتعزيز الممارسة ومعالجة المخاوف الأخلاقية بشكل استباقي. يمكن للأخصائيين الاجتماعيين الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي لإحداث ثورة في المجال وخلق مجتمع أكثر استقرار. برأي أن مستقبل الخدمة الاجتماعية مشرق، والذكاء الاصطناعي يلعب دورًا أساسيًا في تشكيله والأجدر بنا كمتخصصين أن نأخذ دفة القيادة.

 

 

 

المراجع

Goldkind, Lauri, “Social Work and Artificial Intelligence: Into the Matrix” (2021). Social Service Faculty Publications. 19. https://research.library.fordham.edu/gss_facultypubs/19

Cassell, J., & Churchill, E. (2022, October 20). Embodied conversational agents. MIT Press. Retrieved April 27, 2023, from https://mitpress.mit.edu/9780262032780/embodied-conversational-agents/

DataKind. (n.d.). Retrieved April 27, 2023, from https://www.datakind.org/our-story

Datamade.us. (n.d.). Chicago Data Collaborative. Retrieved April 27, 2023, from https://chicagodatacollaborative.org/

Petkauskas, V. (n.d.). Chatgpt tied to Samsung’s alleged data leak | Cybernews. ChatGPT tied to Samsung’s alleged data leak. Retrieved April 27, 2023, from https://cybernews.com/news/chatgpt-samsung-data-leak/